فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {لا يسألون الناس إلحافًا} بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بيانًا ثانيًا، لكيفية حُسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس.
وكان مُقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلاّ أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضربًا في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام.
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئًا من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلاّ وقد جاء به، وأظهر به مزيد الاعتناء. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: إلْحَاحًا وَإِدَامَةً لِلْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا وَإِدَامَتُهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ الْمَسْأَلَةَ رَأْسًا؟ قِيلَ لَهُ: فِي فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِ الْمُخَاطَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَسْأَلَةِ رَأْسًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} فَلَوْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ إلْحَافًا لَمَا حَسِبَهُمْ أَحَدٌ أَغْنِيَاءَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ التَّعَفُّفِ} لِأَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ الْقَنَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ».
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيِ أَنَّ ثِيَابَ الْكِسْوَةِ لَا تَمْنَعُ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَسْكَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْفَرَسِ وَالْخَادِمِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاجَةً مَاسَّةً فَهُوَ غَيْرُ غَنِيٍّ بِهَا؛ لِأَنَّ الْغِنَى هُوَ مَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

{إلْحَافًا} مَعْنَاهُ الشُّمُولُ بِالْمَسْأَلَةِ إمَّا لِلنَّاسِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْوَالِ؛ فَيَسْأَلُ مِنْ النَّاسِ جَمَاعَةً، وَيَسْأَلُ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَبِنَاءُ لُحِفَ لِلشُّمُولِ، وَمِنْهُ اللِّحَافُ؛ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَشْتَمِلُ بِهِ، وَنَحْوُهُ الْإِلْحَاحُ؛ يُقَالُ: أَلْحَفَ فِي الْمَسْأَلَةِ إذَا شَمِلَ رِجَالًا أَوْ مَالًا، وَأَلَحَّ فِيهَا إذَا كَرَّرَهَا.
وَرَوَى الْمُفَسِّرُونَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْمُتَعَفِّفَ، وَيُبْغِضُ الْغَنِيَّ الْفَاحِشَ الْبَذِيَّ السَّائِلَ الْمُلْحِفَ».
وَلَمْ يَصِحَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ، وَلَا عُرِفَ لَهُ سَنَدٌ، لَكِنْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا كَارِهٌ فَيُبَارِكُ اللَّهُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ».
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ الْأَسَدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «نَزَلْت أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ فَذَهَبْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْت عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيك. فَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرُك إنَّك لَتُعْطِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّهُ لَيَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ، مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا. فَقَالَ الْأَسَدِيُّ: لَلَقْحَةٌ لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ».
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَهُوَ مُلْحِفٌ».
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُلْحِفَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الرَّجُلَ بَعْدَمَا رَدَّهُ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ عَنْ السُّؤَالِ، إلَّا أَنْ يَسْأَلَ زَائِدًا عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَيُغْنِيهِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ؛ فَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَسَمِعْت بِجَامِعِ الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ رَجُلًا يَقُولُ: هَذَا أَخُوكُمْ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ مَعَكُمْ، وَلَيْسَ لَهُ ثِيَابٌ يُقِيمُ بِهَا سُنَّةَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى رَأَيْت عَلَيْهِ ثِيَابًا جُدُدًا، فَقِيلَ لِي: كَسَاهُ إيَّاهَا فُلَانٌ لِأَخْذِ الثَّنَاءِ بِهَا.
وَيُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ إذَا رَدَّهُ الْمَسْئُولُ وَالسَّائِلُ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا سَأَلَهُ إيَّاهُ أَوْ جَاهِلٌ بِحَالِهِ، فَيُعِيدُ عَلَيْهِ السُّؤَالَ إعْذَارًا أَوْ إنْذَارًا ثَلَاثًا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء، ثم قال بعده {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273] وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما: أنه تعالى لما قال: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالمًا بمقادير الأعمال وكيفياتها.
والوجه الثاني: وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي، قال: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} بين أن أجره واصل لا محالة، ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة، وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات، لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته: ما يكفيك بأن يكون علي شاهدًا بكيفية طاعتك وحسن خدمتك، فإن هذا أعظم وقعًا مما إذا قال له: إن أجرك واصل إليك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعَة، وقوله: {فإن الله به عليم} كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيرًا، فلما كان الإنفاق مرغّبًا فيه من الله، وكان عِلم الله بذلك معروفًا للمسلمين، تعيَّن أن يكون الإخبارُ بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليمًا به، لأنّه قدير عليه.
وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفِق، وصلة بينه وبين ربّه، ونوال الجزاء من الله، وأنّه ثابت له في علم الله. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير إلحاف؟

قيل: لا؛ لأنهم كانوا أغنياء من التعفف، وإنما تقدير الكلام لا يسألون فيكون سؤالهم إلحافًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فوائد ونفائس جليلة:

قال القرطبي:
قال ابن عبد البر: مِن أحسن ما رُوي من أجوبة الفقهاء في معاني السؤال وكراهيته ومذهب أهل الوَرَع فيه ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل وقد سئل عن المسألة متى تحِل قال: إذا لم يكن عنده ما يُغذِّيه ويُعَشِّيه على حديث سهل بن الحَنْظَلِيّة.
قيل لأبي عبد الله: فإن اضطر إلى المسألة؟ قال: هي مباحة له إذا اضطر.
قيل له: فإن تعفّف؟ قال: ذلك خير له.
ثم قال: ما أظن أحدًا يموت من الجوع! الله يأتيه برزقه.
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخُدْرِي: «مَنِ استعف أعفّه الله» وحديث أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: تعفف، قال أبو بكر: سمعته يسأل عن الرجل لا يجد شيئًا أيسأل الناس أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة وهو يجد من يسأله، هذا شنيع.
قال: وسمعته يسأله هل يسأل الرجل لغيره؟ قال لا، ولكن يُعَرِّض. كما. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم حين جاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابِي النِّمار فقال: «تصدّقوا» ولم يقل أعطوهم.
قال أبو عمر: قد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تُؤجَرُوا» وفيه إطلاق السؤال لغيره. والله أعلم.
وقال: «ألاَ رجلٌ يتصدّق على هذا»؟ قال أبو بكر: قيل له يعني أحمد بن حنبل فالرجل يذكر الرجل فيقول: إنه محتاج؟ فقال: هذا تعريض وليس به بأس، وإنما المسألة أن يقول أعطه.
ثم قال: لا يعجبني أن يسأل المرء لنفسه فكيف لغيره؟ والتعريض هنا أحبّ إليّ.
قلت: قد روى أبو داود والنَّسائي وغيرهما: أن الفراسيّ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال: «لا وإن كنتَ سائلًا لابد فأسأل الصالحين» فأباح صلى الله عليه وسلم سؤال أهل الفضل والصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وإن أوقع حاجته بالله فهو أعلى.
قال إبراهيم بن أَدْهم: سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله تعالى، فأنزْل حاجتك بمن يملك الضُّرَّ والنّفْع، وليكن مَفْزَعك إلى الله تعالى يكفيك الله ما سواه وتعيش مسرورًا. اهـ.
قال القرطبي أيضا:
فإن جاءه شيء من غير سؤال فله أن يقبله ولا يردّه، إذ هو رزق رزقه الله.
روى مالك عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فردّه، فقال له رسول الله: «لِم رَددته»؟ فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أن أحدنا خير له ألاَّ يأخذ شيئًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما ذاك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه الله» فقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدًا شيئًا ولا يأتيني بشيء من غير مسألة إلاَّ أخذتُه. وهذا نصٌّ.
وخرج مسلم في صحيحه والنسائيّ في سننه وغيرهما عن ابن عمر قال سمعت عمر يقول: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعطيني العطاءَ فأقول: أَعْطِه أفقرَ إليه مِنِّي، حتى أعطاني مرّة مالًا فقلت: أعْطِهِ أفقَر إليه منّي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُذْه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مُشْرِفٍ ولا سائِلٍ فخذه وَمَالا فَلا تُتبِعه نفْسَك» زاد النسائي بعد قوله «خذه» «فتموّلْه أو تصدّق به» وروى مسلم من حديث عبد الله بن السَّعْدِيّ المالكيّ: عن عمر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أعطِيت شيئًا من غير أن تسأل فكُلْ وتصدّق» وهذا يصحح لك حديث مالك المُرْسَل.
قال الأَثْرَم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أتاك من غير مسألة ولا إشراف» أيّ الإشراف أراد؟ فقال: أن تستشرفه وتقول: لعلّهُ يُبعث إليّ بقلبك.
قيل له: وإن لم يتعرّض، قال نعم إنما هو بالقلب.
قيل له: هذا شديد! قال: وإن كان شديدًا فهو هكذا.
قيل له: فإن كان الرجل لم يعوّدني أن يرسل إليّ شيئًا إلاَّ أنه قد عرض بقلبي فقلت: عسى أن يبَعث إليّ.
قال: هذا إشراف، فأما إذا جاءك من غير أن تحتسبه ولا خطر على قلبك فهذا الآن ليس فيه إشراف.
قال أبو عمر: الإشراف في اللغة رفع الرأس إلى المطموع عنده والمطموع فيه، وأن يَهَشّ الإنسان ويتعرّض.
وما قاله أحمد في تأويل الإشراف تضييق وتشديد وهو عندي بعيد؛ لأن الله عزّ وجلّ تجاوز لهذه الأُمّة عما حدّثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمله جارحة.
وأما ما اعتقده القلب من المعاصي لا خلا الكفر فليس بشيء حتى يعمل به؛ وخطرات النفس متجاوز عنها بإجماع. اهـ.
وقال رحمه الله:
الإلحاح في المسألة والإلحاف فيها مع الغنى عنها حرام لا يحلّ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالَهم تكثُّرًا فإنما يسأل جَمْرًا فليَسْتَقِلّ أوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رواه أبو هريرة خرّجه مسلم.
وعن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقَى الله وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم» رواه مسلم أيضًا. اهـ.
وقال عليه الرحمة:
السائل إذا كان محتاجًا فلا بأس أن يكرر المسألة ثلاثًا إعذارًا وإنذارًا والأفضل تركه.
فإن كان المسؤول يعلم بذلك وهو قادر على ما سأله وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلًا به فيعطيه مخافة أن يكون صادقًا في سؤاله فلا يفلح في ردّه. اهـ.
وقال أيضا:
فإن كان محتاجًا إلى ما يُقيم به سُنّةً كالتجمّل بثوب يلبسه في العيد والجمعة فذكر ابن العربيّ؛ سمعت بجامع الخليفة ببغداد رجلًا يقول: هذا أخوكم يحضر الجمعة معكم وليس عنده ثياب يُقيم بها سُنّة الجمعة. فلما كان في الجمعة الأخرى رأيت عليه ثيابًا أُخر، فقيل لي: كساه إياها أبو الطاهر البرسني أَخْذَ الثناء. اهـ.